الفكر
الإسلامي
الاستخلاف
ليس محلاًّ للإرث
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة
أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ
/ 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
اتّخذ الناسُ اليوم الاستخلافَ مكانَ المشايخ إرثاً يتوارثونه ، ولو كان الخليفة الذي ينصبونه مكانَ شيخٍ أحمقَ كالحمار. وقد كان في الماضي المشايخ يضعون العمائمَ على رؤوس المريدين، وأصبح الأمرُ اليوم عكسَ ذلك ؛ فعاد المريدون يُكْرِمُون المشايخَ بالعمائم ؛ فما إن مات الشيخُ حتى يُحِلـُّون نجلَه محلّ أبيه ، ويُكْرِمُونَه بعمامة الخلافة ؛ فيصير شيخًا لهم جميعًا .
وقد
مَحَا شيخُنا (الحاج إمداد الله المهاجر المكيّ رحمه الله تعالى 1233هـ / 1817هـ =
1317هـ / 1899م) هذا التقليدَ كليًّا ؛ فلا يَحْتَلُّ اليوم سجّادتَه أحدٌ . وكانت
سجَّادةٌ له في بلدة «كنكوه»
– إشارة إلى مريده الشيخ الفقيه المحدّث العالم الربّاني رشيد أحمد الكنكوهي
1244هـ / 1829م = 1323هـ / 1905م – وكانت سجَّادةٌ له في مدينة «ديوبند»
– إشارة إلى الشيخ الناطق بالإسلام الإمام محمد قاسم النانوتويّ رحمه الله تعالى
رئيس الطائفة المُؤَسِّسَة لجامعة دارالعلوم/ ديوبند 1248هـ / 1832م = 1297هـ /
1880م – فكانت سجّاداتُه مُتَوَزَّعَةً في أمكنة شتّى . وأَوَدُّ أن أُؤَكِّد أن
هذا الموقفَ له قيمةٌ مزيدةٌ وأهميّةٌ قصوى؛ حيث السجّادات تَتَوزَّعُها الأمكنةُ
. وليس بشيء أن تكون السجّادةُ واحدةً مُرَكَّزَة في مكان واحد . إنّ هذا الشيءَ
وأمثالَه لاتحتمل التوريثَ والتوارثَ .
قصة
وقعت لي :
طَلَبَ
إليَّ ذاتَ مرة أهالي بلدتي – تَهانَهْ بَهوَنْ Thana bhawan بمديرية «مظفر
نكر»
Muzaffar
Nagar
بولاية «أترابراديش»
Uttar Pardesh – أن أتحمّل مسؤوليّةَ
الإمامة بالمصلين ، فقَبِلتُ طلبَهم بشروط ، كان من بينها أنّ الإمامةَ لاتصير
حقًّا من حقوقي ، وأنّي لا أكون مُلْزَمًا بالإمامة ، فأَتَخَلَّىٰ عنها
عندَما أريد . ثم أعلنتُ على مرأى ومسمع منهم أني تولّيتُ الإمامةَ على إلحاحٍ من
الناس ، و أَوَدُّ أن أُوَضِّح أن ذلك لايكون حقًّا لي، فلا يجري فيه التوارثُ .
وعندما يكره أحدٌ إمامتي مهما كان من الذين يعتبرهم الناس من الحشوة ، فله أن يكتب
إليَّ بطاقةً عن طريق البريد ، أني أكره إمامتَك . فأقول: والله لو أنّ ناسجًا
للثياب أو جزّارًا منعني من الإمامة ، لامتنعتُ عنها فورًا . وعندما صرّحتُ لهم
بذلك قمتُ بالإمامة ؛ لأنه بعدما صرّحتُ انْتَفَتْ احتمالاتُ التوارث . وبعد مدة
تخلّيتُ عنها بدوري .
توارث
السجّادة
فاليوم
صار الاستخلاف إرثاً يتوارثونه . والناس يحترمون السجادةَ المُتَوَارَثَةَ ؛ حيث
يرون أنّها ذاتُ أهميّة . فذلك احتفالٌ بالتقليد . وقد وجدنا لدى هؤلاء الناس
تقليدًا آخر، وهو أنّ الشيخ القابع في السجّادة لايخرج من الزاوية . زرتُ مدينة «بهاكلبور»
Bhagal pur – إحدى مدن ولاية «بيهار»
بالهند – فسمعتُ أن شيخًا لم يخرج من الزاوية منذ 40 عامًا : منذ أن قَبَعَ في السجّادة
. وكان مريدوه يَرْوُوْنَ عنه ذلك مُتَبَاهِيْنَ . قلتُ لهم: هل هو من الأنثى؟ إن
الرجل يُطَوِّف بالخارج بالسيف غير المُغْمَدِ ؛ فالقَبْعُ في مكان واحد ليس
رجولةً . أمّا إذا كان أحدٌ مُقْعَدًا أو قَعَدَتْ به الأعذار أو الدواعي الأخرى ،
فلا بأس به.
ومثلُ
هذا الشيخ إذا دَعَتْهُ الضرورةُ للمثول بين يدي المحكمة ، تُبْذَل محاولاتٌ
مُكَثَّفَةٌ لإعفائه منه ؛ لأن المشايخ اليوم عادوا يَعُدُّون المثولَ لدى المحكمة
عيبًا . ولم أدرِ أنا السببَ في كونه عيبًا .
قصةٌ
أخرى حدثت لي
كانت
هناك مُحَاكَمةٌ جارية في مدينة «كانبور»
بولاية «أترابراديش»
بالهند وكانت لاتُحْسَم بشكل ؛ فقال القاضي للخصمين : الأحسنُ أن تَصْطَنِعَا
حَكَمًا يحكم في قضيّتكما ، ثم المحكمةُ تتولّى تنفيذَ ما يحكم به هو . و رَضِيَا
باتّخاذ الحَكَمِ وسَمَّتِ المحكمةُ عددًا من العلماء لَم يتَّفِقَا على أحدٍ منهم
، ثم سَمَّتْني فرَضِيَا ، وبالتالي وَجَّهتْ إليَّ المحكمةُ أمرًا رسميًّا
بالمثول أمام القاضي (Summons) لأُدْلِيَ بما
يَعِنُّ لي من الحكم في القضيّة ، فاعْتَقَدَ إخوانٌ مثولي بين يدي القاضي مذلّةً
لي . قلتُ لهم : ما هي المذلة في هذا الأمر؟ إنّها لعزّةٌ أن تُحْسَم قضيّةٌ
بشهادتي . على كل فمثلتُ لدى القضاء ، وأدليتُ بما كان عندي ، وتَمَّ حسمُ القضيّة
العالقة منذ الثمانية عشر عامًا بناءً على تصريحاتي .
وكذلك
كانت لي رحلةٌ ذاتَ مرة إلى مدينة «بريلي»
بولاية «أترابراديش»
بالهند ، فأَبْدَىٰ مديرٌ للشرطة رغبةً في الاجتماع بي ؛ لأنّه كان حريصًا
على زيارة ذوي العلم والفضل . وعندها كذلك رَأَىٰ بعضُ المحبين أن المديرَ
ينبغي أن يحضر إلى منزلي ؛ لأن في ذلك إكرامًا لي ، أمّا حضوري إليه فهو مذلّة .
أما أنا فرأيتُ غيرَ ما رَأَوْا ؛ حيث فكّرتُ أنه إذا جاء إليّ أكون أنا
المُستَقْبِل له والمُحْتَفِي به، وإذا حضرتُ إليه يكون هو المُكْرِم لي؛ فذهبتُ
أنا إليه ، فَتَنَاوَني بحفاوة بالغة .
وقد
كان ما أبديتُ من السبب في حضوري إلى مدير الشرطة ، مبنيًّا على فكرة الإخوان .
أما السبب الحقيقي أنّ الله أكرمه بمنحه السلطةَ ، وجعله مسيطرًا علينا ؛ فندمتُ
على أن أجعل الحاكم محكومًا . إن الله إذا جعله حاكمًا فالأدبُ التكويني يقتضي أن
نعامله معاملةَ المحكوم مع الحاكم . فإذا رَغِبَ حاكمٌ من الحكاّم في لقائي
أُحِبُّ أن أزوره أنا . أمّا اليوم فقد سادتِ التقاليدُ التي تجعل الناس يحسبون
أنّ في ذلك مذلّةً للعُلماء وذوي الفضل .
قصة
أخرى
كان
الحديث يدور أصلاً في توارث سجّادات المشايخ ، فأشير إلى مفسدةٍ أخرى من خلال قصة
ممتعة ؛ ولكنها مثيرة لدرس كبير : يقال : اِنّ قاضيًا (مأذونًا شرعيًّا للإمامة والمناكحة
والطلاق) مسلمًا صار مدينًا لمرابٍ هندوسيّ في مدينة ، فرفع المرابي ضدّه دعوىً
إلى المحكمة ، فأصدرت الحكم بمصادرة مُمْتَلَكاَتِه وأراضيه الزراعيّة حتى ما كان
يناله من المكافآت النقدية لقاءَ الخطابة والإمامة ؛ فقد كان دخلُه الحاصلُ أيام
العيدين كبيرًا جدًّا . قال الراوي : إنه رأى ذات مرة يومَ العيد أن المسلمين
يتوافدون إلى المُصَلّى في ملابس جديدة وبدأوا ينتظرون مقدمَ الإمام ، فما لبثوا
أن رَأَوْا مُرَابِيًا هندوسيًّا يُغِذّ الخطى إليهم في «الدهوتي»
– الإزار الطويل الأبيض الرقيق الذي يتّزر به الهندوس شعارًا لهم – وما إن وصل
المُصَلَّىٰ حتى ارتفع الضجيجُ بأن السيد الإمام قد حَضَرَ . وقضيتُ من عجبى
– لايزال الحديث للراوي – وقلتُ في نفسي يا إلهى ! كيف هذا الإمام ؟ هل المرابي
الهندوسيّ سيُصَلِّي العيدَ بالناس ؟!. وما هو إلاّ دقائق حتى صَعِدَ المرابي
فعلاً المنبرَ ، وانْتَصَبَ قائمًا وخاطب الناسَ : أيّها الناس ! هل تسمحون لي ؟
قالوا : نعم ، نسمح لك ، فبسط ثوبًا على الأرض ، وبدأ الناس يقذفون عليه الفلوسَ
والروبيّاتِ . وعندما انْتَهَوْا من دفع النقود ، عَدَّدَ ما تَجَمَّعَ منها على
ثوبه ، وسَجَّلَ المجموعَ في دفتر حسابه بأنّ الدخلَ كان يومَ العيد هذا العامَ
كذا من الروبيّات ، ثم جَعَلَها في صُرَّة ، وألقى الصُرَّةَ على إحدى كتفيه ، ثم
قال للناس : هل تأذنون ؟ قالوا : نأذن لك . ثم قَدَّمَ إليهم التحيّةَ ، ورَجَعَ
أدراجَه إلى بيته ، ثم لَحِقَه الناسُ إلى بيوتهم دونما صلاة أو خطبة تتبعها. وقد
سألهم الراوي: أَوَلا تُؤَدَّى الصلاةُ ؟ فقَصُّوا عليه القصةَ بفصّها ونصّها ،
وقالوا : إن السيد الإمام مدين للمرابي الهندوسي هذا ، وقد حَصَلَ على قرار قضائي
بمصادرة ما كان يناله الإمام من الدخل يومي العيدين ، فاخْتَفَىٰ هو منذ سنوات
، فلا يَطْلُعُ إلى المُصَلَّىٰ . أمّا نحن فنحضره كالعادة ، وهذا المرابي
يواظب على استخراج النقود وجمعها ؛ فصلاتا العيدين لاتُؤَدَّيَان منذ سنوات .
فالإرثُ
المعمولُ به في أمثال هذه الأشياء ، إحدى مفاسده أن الدخل الحاصل بأسماء المشايخ
والصالحين يضيع في غير موضعه ، فالأوقافُ الكثيرةُ تضيع ؛ لأنّ الغلاّت والحاصلات
الموقوفه لصالح زوايا الصالحين تذهب هدرًا ؛ لأن تقليد استخلاف المشايخ وتوارثِ
سجّاداتهم ، لايسمح بتولّي القيام على الأوقاف إلاّ لأولاد المشايخ سواء أكانوا
صالحين أو طالحين ، ثم يمتد الأمرُ إلى ادّعائهم ملكَها . وعلى ذلك فضاعت آلافٌ من
الأوقاف .
* * *
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني
1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.